יום שבת, 2 ביוני 2012


صفرو

صفرو.. أورشليم اليهود وحديقة الفرنسيين وحبة الكرز التي يعشقها المغاربة

على بعد ثمانية وعشرون كيلومترا جنوب شرق مدينة فاس، و بالضبط عند سفح جبال الأطلس المتوسط، تقع مدينة صفرو البسيطة والجميلة، تلك المدينة الصغيرة في مساحتها والعظيمة في عراقتها وأصالتها. تاريخها المجيد، وأناسها الطيبون وعمرانها السهل الممتنع، خير دليل على حب هذه المدينة الوفية للحياة، هذه المدينة المتميزة والعاشقة للحرية والكرامة،

التي لطالما حافظت على صمتها الناطق وطابعها الأصيل وتراثها الشعبي والثقافي والحضاري الذي سقته شرايين حضارات سابقة من أمازغة وعرب ومسلمين ويهود.

هي مدينة عرفت ببساطة العيش رغم قسوة الحياة، وبتواضع أناسها رغم ارتفاع أسوارها العالية الشاهقة، وبمغاراتها الغامضة وغاباتها الموحشة رغم وضوحها وصفاء ونقاء جوها المنعش ونسيمها العليل.

ذاك الزائر المتجول في أحيائها العتيقة ودروبها القديمة، كلما توغل أكثر.. إلا وشده عبق ماض بعيد، وكأنه يتصفح مخطوطا أو كتابا تاريخيا ضرب في القدم واختزل مجد وحضارات أمم خالدة.

عيونها المتدفقة تنطق بالكرم والترحاب، وأشجارها الوارفة الظلال تحضن حاجيها بالحب والحنان، وشلالها الغزير المنهمر يوحي بالخير والعطاء، أما واديها الجارف فلا يحمل مع تياره إلا إعجاب الزوار المفرط بجمال هذه المدينة الساحرة، وكأنها قطعة من الماس تتوسط عقدا من حبات الروعة والجمال على صدر المملكة المغربية.

وتفيد بعض الشهادات أن مدينة صفرو قد تأسست بوقت كبير قبل مدينة فاس، وأنها كانت مدينة بعكس فاس التي كانت مجرد قرية، حيث يحكى أن المولى إدريس الثاني مؤسس مدينة فاس، حين أطلق أوراش بناء هذه الأخيرة، قال قولا مأثورا: “سأرحل من مدينة صفرو إلى قرية فاس”، وهو قول مازال يردده أهل صفرو صغيرهم قبل كبيرهم، تباهيا منهم أمام أهل فاس بقدم وعراقة مدينتهم. وحسب المؤرخ ابن أبي زرع، صاحب كتاب “روض القرطاس”، فإن هذا السلطان كان أقام في حي بالمدينة أطلق عليه إسم “دشر حبونا”، نظرا لحفاوة وكرم أهل صفرو وكذا اعترافا منه بالحب والعطاء الذي حظي به من جانبهم.

وتعرف مدينة صفرو بمهرجان حب الملوك الذي ينظم عادة مرة كل سنة خلال نهاية ثاني أسابيع شهر يونيو الذي يتزامن مع نهاية موسم جني الكرز، وهو احتفال كانت احتضنته المدينة منذ سنة 1919 احتفاء بهذه الفاكهة التي تنتجها أرض صفرو الطيبة المتميزة، وقد بلغ المهرجان الذي يستمر لثلاثة أيام متواصلة، دورته الثامنة والثمانين خلال السنة الماضية.

إلا أن إنتاج الكرز تراجع كثيرا مع نهاية الستينات، حيث اقتلعت آلاف أشجاره بما فيها أشجار “البلدي” المعروفة بكرزها الأسود وبتراجع إنتاج هذه الفاكهة ورغم أن المصالح الفلاحية بذلت ما في وسعها لإعادة غرس أشجار جديدة، لكنها فشلت في ذلك وبقي ذلك محصورا داخل حدائق المنازل وبعض الضيعات المعدودة على رؤوس الأصابع.

وقبل المهرجان بأيام قليلة، يقوم المسؤولون باختيار ملكة الجمال خصيصا وولاء لثمرة الكرز، والتي يتم انتقاؤها من بين أجمل الفتيات المرشحات شرط أن تكون منحدرة من صفرو أو من مدينة فاس، وتبقى ملكة الجمال محتفظة بتاجها إلى الموسم المقبل حيث تقدمه لملكة أخرى.

وكما جرت العادة لاختيار ملكة جمال “حب الملوك”، فقد أكد المنظمون لهذه التظاهرة الثقافية في وقت سابق، بأن مهرجان “حب الملوك” لا يمكن اعتباره فقط نشاطا ثقافيا وفنيا تحتفل به مدينة صفرو بل مناسبة أيضا لعرض وبيع مختلف أصناف فاكهة الكرز التي تزخر بها المدينة.

ويتم استعراض موكب ملكة حب الملوك في احتفالات راقصة وموسيقية تعظيما لهذه الفكهة المتميزة، كما يعرض الفلكلور الشعبي للمنطقة، فضلا عن تنظيم أنشطة رياضية ومسابقات ثقافية وسهرات فنية في بعض ساحات المدينة كساحة باب المقام.

وتجدر الإشارة إلى أن أهم أسباب قيام هذه المدينة واختيار العيش على أرضها هو وفرة الماء والعشب وخصوبة التربة، إضافة إلى ووجود الكهوف بكثرة في جبالها والتي اتخذها الصفرويون سكنا لهم في بداية الأمر، وقد ساعد كل هذا بعض القبائل الأمازيغية من البدو الرحل على الاستقرار بالمنطقة التي وفرت لهم ظروف العيش المناسبة.

وقد اتخذت المنطقة تنحت أولى ملامح التعمير والسكن في النصف الثاني من القرن السابع الميلادي حيث ظهرت النواة السكنية الأولى على سفح مرتفع قريب من الشلال، سميت فيما بعد بالقلعة.

كما ساهمت تجارة القوافل القادمة من الشمال المغربي والمتجهة نحو تافيلالت وسجلماسة في توسع عمران المدينة فأصبحت مدينة صفرو بذالك محطة رئيسية لهذه القوافل بعد أن استقر بها بعض التجار اليهود، الذين كانوا جاؤوا من واحات الجنوب المغربي، فشيدوا بها ملاحا لا زال قائما إلى يومنا هذا وأقاموا المرافق التجارية. وهكذا، ازدهرت بها الأنشطة الاقتصادية طيلة ما يزيد عن قرنين ونصف.

وعرفت مدينة صفرو عند اليهود بإسم “أورشليم الصغيرة”، وعند الفرنسيين باسم”حديقة المغرب”، وباسم “مدينة حب الملوك” عند سكانها. كما أن السر في علو أسوارها فهو التصدي للغارات والهجوم الخارجي، أما القرى والأرياف المجاور لها كعزابة وسكورة والبهاليل ومزدغة الجرف وصنهاجة وموجو وبني يازغة، فهي امتداد لجمال المدينة الطبيعي والتاريخي. إذ تشتهر هذه الأرياف بزراعة الفواكه كالكرز والتفاح والإجاص والحبوب والخضروات وإنتاج زيت الزيتون.

أهل مدينة صفرو معروفون ببساطة عيشهم وكذلك بقوة التلاحم والاندماج فيما بينهم، لكن تراهم يذوبون وسط القرويين خلال أيام الخميس (وهو اليوم المخصص للتسوق بالمدينة) أو خلال أيام مهرجان حب الملوك. ، حيث يعتمد أغلبهم على النشاط الفلاحي في توفير قوتهم اليومي. ويتوزع هذا النشاط الفلاحي بين غرس أشجار التفاح والكرز والزيتون وزراعة الحبوب كالقمح والشعير والفول والعدس وتربية الأغنام والأبقار. غير أن هذه النشاطات الفلاحية تراجعت كثيرا بفعل الجفاف، مما جعلهم يهتمون بالتجارة والصناعة ودفع ببعضهم إلى الهجرة نحو المدن الكبرى.

وقد سبق أن تم الاهتمام بالمجال البيئي لمدينة صفرو حيث أعطيت الانطلاقة لحملة للنظافة شاركت فيها عدة جمعيات تخليدا لليوم العالمي للبيئة، بهدف تشجيع السياحة الجبلية المحلية كما اعتبرت فرصة ومناسبة للأساتذة الباحثين والمهتمين بهذا المجال من أجل تسليط الضوء على تاريخ شجرة الكرز وذلك عبر تنظيم ندوات وموائد مستديرة حول هذه الشجرة وخصائصها ومميزاتها.

وتبقى مدينة صفرو الصغيرة متميزة في كل ما تملكه من ثروة طبيعية وبشرية، حيث تراها حينا أشبه بثمرة الكرز التي تستهوي كل زائريها وتشد نظره واهتمامه، وتراها مرة أخرى كامرأة ترش عليها عطرا من خلاصة الطبيعة تتزين لعشاقها الذين لا يكادون يرحلون حتى يقطعون لها وعدا بالرجوع ويحددون معها موعدا مهما كان لن يخلفوه.

אין תגובות:

הוסף רשומת תגובה

מסגד על רקע השער

מסגד על רקע השער